النظام السوري والرقص مع الذئاب‏

26

ربما تكمن معضلة الطغاة الأساسية في افتقارهم لفضيلة التواضع، الفضيلة التي تساعد صاحبها على التحلي بمرونة كافية وتجعله أكثر استعداداً للتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين، فلا يكرر الأخطاء نفسها التي وقع بها غيره وتوقع نتائج مختلفة.

ولعل الغرور والتقدير المبالغ به للذات وقدراتها من أهم الأسباب التي تعجل بنهاية الطغاة.

لقد كانت تجربة الولايات المتحدة في أفغانستان أكثر من كافية لكي ينأى بعض الطغاة عندنا عن السير على هديها. فقد لعبت واشنطن بالسلاح المزدوج للدين والمشاعر الدينية واستثمرت حماسة الشباب المسلم إلى أقصى مدى لها برعايتها في الماضي تنظيم «القاعدة» وتقديم كافة أشكال الدعم الدعوي والمادي والعسكري له، ليقوم عوضاً عنها بما استنكفت هي كقوة عظمى عن القيام به، تحرير أفغانستان من الوجود العسكري للسوفياتي، فماذا كانت النتيجة؟

لن نستفيض بالحديث عما حدث بعد ذلك، وكيف تحولت الولايات المتحدة ذاتها إلى هدف لتلك الميليشيات الأصولية، فالحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، بأحداثه الجسام وتداعياته الكبرى، لم يكن وبالاً عليها فحسب، بل أيضاً وبالقدر نفسه كان دليلاً لا يقبل الدحض على أن استخدام الدين لأهداف سياسية هو سلاح ذو حدين وأنه لا بد وأن يرتد إلى صدر اللاعبين عاجلاً أم آجلاً.

نظام الأسد لم يتعظ من تلك التجربة، فهو لغروره وقصر نظره، شأنه في ذلك شأن جميع أنظمة الطغيان، كان فتح الأبواب لجميع أشكال التطرف الديني في سورية، خصوصاً بعد احتلال القوات الأميركية للعراق، واختار أن يجرب اللعبة الأميركية العبثية والمدمرة ذاتها، ظناً منه أنه يستطيع أن يتحكم بخيوطها ويكون أكثر حذقاً من غيره في استخدامها، فأقام معسكرات التدريب والإيواء لمجموعات القاعدة ومن لفها وأرسلها محملة بالموت والدمار إلى مدن العراق بشقيها السني والشيعي لتزرع الموت والدمار حيثما حلت، بهدف استدراك تداعيات الاحتلال الأميركي للعراق على نظامه الذي كان مستهدفاً بما هو نسخة مكررة عن نظام صدام حسين الذي جرت إطاحته. وها هو أعاد ويعيد استخدامها في سورية غير عابئ بالنتائج التي لن يكون هو بالذات بمنأى عنها.

كعادة الأنظمة الشمولية عندما يحيق بها الخطر، لا تستطيع النظر أبعد من أنفها. وغني عن القول أن النظام السوري بإطلاقه يد تلك التنظيمات الإرهابية على المجتمع السوري، أراد تحقيق مكاسب محض آنية، ظناً منه أنها ستحميه من السقوط الوشيك، فهو أراد الظهور أمام المجتمع الدولي الذي طالبه بالتنحي مع بدء تصاعد المطالب الشعبية في البلاد، بمظهر الضحية للإرهاب، والتي تخفي ضمناً رسالة مفادها أن لديه القدرة على جر سورية إلى حرب أهلية مذهبية تخلق معها الفوضى القابلة للامتداد وتهديد الاستقرار في كل محيطها، كل ذلك بهدف جعل الدول الكبرى تتحسب من نتائج تلك الحروب المذهبية على مصالحها الحيوية في المنطقة والقضاء على أي أمل للسوريين في الانتقال السلمي والهادئ إلى الديموقراطية في آن.

ولكن هل حقق فعلاً النظام الأهداف التي وضعها باتباع سياسة إطلاق يد الإرهاب الأصولي في سورية؟ وهل بالإمكان القول إن تلك القوى الأصولية التي استخدمها ويستخدمها ستبقى أداة بيد النظام وأنها لن تنقض عليه في لحظة من لحظات الضعف؟ وهل ستوفر كل تلك القوى والمجموعات نظام الأسد، خصوصاً بعد أن بدا على جيشه كل مؤشرات الضعف والتراجع بعد انسحابه المشين من الكثير من المناطق الحيوية والاستراتيجية؟ هل سيوفر «داعش» رأس النظام وهل سيتوقف حقاً عند حدود اللاذقية لا يتعداها عندما يدرك مدى ما وصل إليه النظام من انهيار؟ وما الضمانات التي تجعل النظام السوري مطمئناً ومتأكداً أنه سينجو في نهاية المطاف من يد «داعش»؟ هل كان لدى الولايات المتحدة قبله أية ضمانة من تنظيم «القاعدة» أنها لن تكون هدفاً بعدما ينتهي دورها في تحرير أفغانستان؟

ربما فات نظام الأسد أن تلك الجماعات عصية على التهجين، وأنها تمتلك بدورها مشروعها الخاص بها، وأن مشروعها هذا لا يعترف به، ولا يعترف بوجود الشعب السوري ولا بتنوعه ولا بإرادته، وأن لا مكان في دولة الخلافة لا للأسد ولا لنظامه ولا لأحد غيرها.

لقد تمكنت تلك الجماعات بسيطرتها على مساحات واسعة في سورية من الإطباق شبه الكامل على مصادر الثروة السورية، واضطر النظام صاغراً إلى التعامل معها الند للند حيناً وبصَغار في أحيان أخرى، واضطر إلى مداهنتها وقام صاغراً بشراء النفط والقمح والمياه منها بعد أن استقلت في المناطق التي احتلتها، وهي في الحقيقة لم تعد بحاجة لا إلى النظام ولا إلى تسهيلاته، وصار بمقدورها أن تعمل وحدها، وأن تشكل قوة مستقلة بذاتها تفوق قوة النظام، وصارت تمتلك القدرة على تهديد كل المدن التي كانت تشكل معاقل النظام الأساسية وتطرده منها.

هل يستطيع النظام بمساعدة حلفائه الروس والإيرانيين، إذا ما أراد صادقاً، أن يطبق على كفي هذا الوحش الذي دربه وأطلقه، ليمنعه من التهامه؟

لعل الإجابة عن هذا السؤال ستكون أسهل بالتأكيد، إذا ما نظرنا إلى إخفاق الجيش العراقي ومعه الحشد الشعبي وقوى التحالف العربي والغربي لوقف تمدد «داعش» في سورية والعراق، دون وجود أي مؤشر حتى الآن على نجاح تلك الحملات في تحقيق أهدافها، فكيف الحال بالنظام السوري الذي بدأت كل علامات الضعف والتراجع تدب به وبات يفقد سيطرته على المدن والقرى الوحدة تلو أخرى؟

إنه قانون الغاب على أية حال، فالذئاب وإن بدت في حال من الرقص المنسجم والمتناغم مع بعضها بعضاً، فإنها تبقى جاهزة لممارسة الخداع، وهي ستقوم بافتراس من شاركها صيد الفريسة لتحظى بها كلها.

 

نادية عيلبوني

الحياة