تدمر: سؤال البشر والحجر

32

سؤال البشر أم الحجر؟ وغيره من الأسئلة المشابهة عادت للظهور مع سيطرة «داعش» على تدمر والكارثة المحدقة التي تنتظر آثارها وأوابدها. وبقدر ما تحتويه هذه الأسئلة من عناصر مصيريّة تتعلّق بالبقاء والخلاص، فإنها تَحوز، إلى ذلك، قدراً عالياً من الرغبة في التضليل وإبهام الأمور. ذاك أنّ القبول بها، بدايةً، تسليم وإقرار بما تحتويه من مقايضة وتمييز، ما يعني إحراجاً للموقف الأخلاقي والإنساني للجمهور الذي يُواجه هذه الأسئلة، ومحاولة لشدّ عصبه عبر التقليل الموارب وغير المباشر لقيمة حياة الأفراد التابعين لجماعته، الذين سيختارُهم ويُفضّلهم كإجابة بديهيّة على تلك الأسئلة بلا شكّ، وبذلك يكون الجمهور قد وقع في فخّ أخلاقيّ سبق للنظام أن نصبه قبل وقت طويل.

فأن يكون كثيرون من السائلين، أو المستخدمين لهذه الأسئلة اليوم، هُم من جمهور الثورة، قاصدين بها تفضيل حياة الناس على ما عداها مهما بلغت قيمته، أمر لا يخلو من دلالات. فعدا كونه مؤشراً على خفّة ما وشعبويّة في التعاطي مع هذه المسائل، يبدو وكأنّه يعطي من حيث لا يريد شرعيّة للمنطق الذي يستخدمه النظام في خطابه، والذي يدّعي فيه تفوّقاً حضاريّاً متخَيّلاً يجمعه بالأمم المتحضّرة التي يتوجّه إليها في دعايته وسعيه لاكتساب شرعيّة حضاريّة ما تحجب كلّ الحقّ الذي قامت الثورة على أساسه، عبر تصوير الشعب الذي قام بالثورة كجماعات متخلّفة، من دون حضارة، ولا تستحق أن تُحسب عليها.

إلى ذلك، يكشف سؤال البشر أم الحجر اليوم عن مفارقة لافتة. ذاك أنّ الإجابة البديهيّة تأتي لتتوافق مع رغبة قديمة للنظام في معادلة التّفضيل تلك، كان يواجه بها أيّ اعتراض على مخطّطاته الكارثيّة التي شوّهت معظم الآثار السّورية، الأمر الذي بلغ ذروته في عهد الأسد الإبن، والتوسّع الذي شهده النشاط المافيويّ لنظامه في الجوانب الاقتصاديّة والماليّة، والذي كان يتطلّب توسيع الفجوة المعرفية بين المواطنين وآثار بلادهم وتراثها الغنيّ، وهو ما نجح النظام في تحقيقه بنسبة كبيرة إذ نزع عن المسألة طابعها الوطنيّ وحوّلها مسألة هامشيّة لا قيمة لها في مقابل البقاء على قيد حياة بلا كرامة. أمّا اليوم، فمصير تدمر الغامض يضعنا أمام امتحان وطنيّ جديد نُعيد التأكيد فيه على مطالبنا بحقوقنا كافّة، وهذا ما لن يتحقّق من دون الانعتاق من معادلات النظام وفرض منطق وطنيّ لا مساومة فيه ولا تخيير: نريدهما كليهما معاً، بشرنا وحجرنا.

 

 

 

حسان القالش

الحياة