خميس وحكومة «عقد الإذعان» السورية

57

مع اختيار رئيس حكومة سورية جديدة قبل أيام، تكاد تتطابق الظروف الحالية للسلطة السورية وتلك الظروف العصيبة التي رافقت انتقال الجمهورية من الأسد الأب إلى الأسد الابن في بدايات الألفية الثالثة. ثمة الكثير من الثغرات لسدها والكثير من الخطابات السياسية التعبوية ومحاولة للإعماء المقصود عما يدور في الكواليس. في تلك المرحلة التي سلفت، كان الخطاب السياسي في سورية يؤكد بشدة أن مبايعة الأسد الابن مبايعة مشروطة لا مطلقة. كانت الشعارات في تلك المرحلة واضحة لمن يدرك تماماً العلاقة بين أجهزة «السلطة» وأجهزة «الدولة»: «نبايعك إلى الأبد على نهج القائد الخالد، نعم للأسد ابن الأسد»… إلخ. لم يكن المقصود بذلك هو النهج الاشتراكي للأب الراحل، إذ ما لبث أن سقط بعد وفاة الأسد الأب في أقل من عام، ولم يتبق من اشتراكية حزب البعث العربي الاشتراكي إلا قدر معلوم يكفي لربط السلطة بالدولة، ويكفي للاحتفاظ بمكاسب «لبرلة اقتصاد الدولة» من دون أن يصل إلى مرحلة حرجة من «لبرلة حركة المجتمع».

في بداية تلك المرحلة، ومع انطلاق شركتي الخلوي السوريتين سيريتل و94 (الأخيرة تغير اسمها إلى MTN بعد انضمامها إلى الشبكة العالمية)، كان سعر الخط الخلوي الواحد يعادل مجموع رواتب ستة أشهر لموظف من الدرجة الأولى، أما الخدمة فكانت غير موجودة عملياً. كان على السوريين الالتحاق بركب التطور العلمي والتقني وتدبيج المدائح لراعي العلم والعلماء وشكره على ما يسبغه من مكارم على شعبه، فيما تتطور الخدمات من جيبهم الخاص. أما العقد الذي كان عليهم الانخراط فيه للحصول على هذه الخدمة فكان ينص على أن مزود الخدمة يمتلك كل الحقوق وكل الصلاحيات في القيام بأي شيء وكل شيء متى شاء، وأن الخط الخلوي ملك الشركة ويحق لها إيقافه وتشغيله وإلغاؤه في أي وقت من دون إبداء الأسباب، كما أن من حقها المشاركة في أي معلومة تراها مناسبة لأي جهة ذات صلة (أو تراها ذات صلة).

كان ذلك مفهوم عقد الإذعان الذي مثل عملياً أمام السوريين للمرة الأولى، وما لبث أن تحول سياسة عامة للسيطرة على مجتمع ينفتح اقتصادياً بشرط ألا ينفتح اجتماعياً وسياسياً، فاستمرت العطايا والمراسيم الرئاسية التي سمحت لصحف خاصة وإذاعات خاصة وتلفزيونات خاصة وجمعيات ونواد خاصة أن تولد شرط أن تلتزم الإذعان ذاته. في هذه المرحلة، يذكر التاريخ السوري أمثلة لمن رفض ذلك واعتبره خطراً على الدولة بغض النظر عن تفاصيل ذلك، كما كان حال صحيفة «الدومري» الساخرة وموقع «عكس السير» الإخباري وتلفزيون «المشرق».

في خضم الحرب، وإذ تحولت جميع طبقات السلطة إلى اقتصاد العنف بأشكاله المختلفة، تم تفصيل حكومة مخصصة لتسيير الأعمال وفق سياسة إذعان غير معلنة مهمتها، في ظل الانهيار الاقتصادي الكبير، أن تتحول سورية إلى دولة وكذلك إلى ملايين زائدة عن حاجة الدولة. وفتح الباب على مصراعيه ترغيباً لمن يرغب في ترك «الشعب» والتطوع أو الانضواء تحت جناح «الدولة»، أما من بقي تحت مظلة الشعب فله الترهيب والتضييق حتى يخنع.

كانت الكهرباء خصوصاً السلاح الأمضى الذي ارتبط بكل الأزمات المعيشية التالية في عقول السوريين، إذ أدى التلاعب المجحف في توزيعها إلى ارتفاع الطلب على المحروقات، وبالتالي إلى شح المياه فتقطّع طرق المواصلات فغلاء فاحش، أدى بدوره إلى ارتفاع سوق العقارات وإغلاق سبل العيش في وجه نصف السوريين على الأقل. ووجد البعض ممن يخافون أو يرفضون إلقاء اللوم على السلطة أو الأسد فائدة مزدوجة في تلك السياسة، فعلقت هذه القضايا في رقبة وزير الكهرباء السابق عماد خميس بوصفه رمزاً للفساد وانعدام المسؤولية. وفيما انغمس خميس في دوره ملقياً اللوم على الإرهابيين ومطالباً السوريين بالتحمل والصبر، أصبح تناقل النكات والسخرية عنه أمراً شائعاً ومتداولاً، بل محموداً. هكذا وجدت السلطة كبش الفداء ومنحت الأزمة المعيشية وجهاً واسماً في عيون السوريين.

الآن ومع إعلان تشكيل حكومة جديدة، لم يكن مستغرباً اختيار الوزير خميس نفسه ليصبح رئيساً لحكومة يعتبرها النظام «حكومة الخروج من الأزمة». هذه الحركة ليست حركة تنفيذية تفصيلية بقدر ما هي سياسية واستباقية، تعلن الإذعان الذي ليس هناك ما يناسبه كخميس، بوصفه نموذجاً للتعميم على جميع مؤسسات الدولة، ولتصور الشكل الحقيقي لـ»هيبة الدولة» كما تفهمها السلطات، ولا يقبله أي سوري.

وحيث أن السلطة التنفيذية وصلاحياتها هي موضع الجدل العقيم في أروقة جنيف وميونيخ وفيينا، فليس أنسب من هذه الرسالة لتوضيح ما يريده النظام بالضبط: إنه لا يريد حكومة تبدو كحل، بل يريد حكومة تشبه الأزمة.

 

نائل حريري

الحياة