سوريا.. الموقع والتاريخ!

30

يكاد الحديث عن مخططات أجنبية لإعادة رسم خريطة الوطن العربي أو ما يسمى بـ «الشرق الأوسط الجديد» يطغى على ما عداه. ولهذا الحديث ما يبرره في الواقع الموضوعي، حيث غالبية القوى التي تتحرك على السطح في الوطن العربي تطرح علانية سعيها لإقامة كنتونات دينية وطائفية وعرقية ومذهبية، بينما مشروع التحرر والنهوض القومي التقدمي العربي يكاد يكون غائباً. حتى ما كانوا يسمونه المشروع الوطني ضمن أطر «دول سايكس بيكو» طغت عليه هذه الأيام دعوات «الكنتكة». ونحن هنا لا نريد التقليل من خطورة تلك المخططات على الوجود القومي للأمة العربية، لكن لا بد من التنبيه إلى ما يلي: أولاً، ان تلك المخططات ليست وليدة اليوم، وان القوى المعادية لهذه الأمة تعمل عليها منذ أكثر من قرن، وما «الكيبوتزات الصهيونية» في فلسطين إلا نموذج حاولوا، ويحاولون تعميمه بين المحيط والخليج. ثانياً، ان الهدف من هذا الضخ الإعلامي حول الموضوع هو الوصول إلى حالة من الاستلاب والتسليم بأن المخططات الأجنبية لا يمكن مقاومتها، وبالتالي لا بد من الرضوخ لها. ثالثاً، نشر حالة الخوف بين المواطنين العرب، بحيث يجدون أنفسهم دائما في حالة من اليأس والعجز، وان عليهم دائماً توقع الأسوأ. رابعاً، تأكيد حالة الشعور بالعجز عن مقاومة تلك المخططات، وبالتالي الانخراط فيها عوضا عن مقاومتها. خامساً، اجهاض أي محاولة لولادة مشروع تحرر وحرية ومواطنة وعدالة ووحدة وديموقراطية في الوطن العربي، وتحديد الخيارات، بحيث تكون جميع الخنادق حتى المتناقضة، تخدم مخططاتهم. وبالتالي، أينما تخندق العربي يكتشف في نهاية المطاف انه في المكان والموقف الخطأ، الذي يخدم أعداء مشروع تحرره وحريته الحضاري.
ـ 2 ـ
يترتب على ذلك حالة من العبث الإنساني لا مثيل لها في التاريخ، حيث تكون الكتلة الكبيرة من المواطنين العرب في حالة عجز وترقب وخوف، وأفق مسدود، ومحاصرة من الجهات كافة، والأقلية الباقية يتم تجنيدها لخدمة مخططات تدميرية بدراية من قبلها أو بغباء وجهل، فتعبث بالوطن وبمقدراته وترتهن لأجندات خارجية، وترتكب أشنع الجرائم والتخريب، وتجد نفسها من حيث النتيجة امام طريق مسدود من الامام والخلف أيضاً، لأنها ارتكبت من الجرائم ما لا يمكن الصفح عنه، وبالتالي ليس امامها إلا الهروب إلى الامام بارتكاب المزيد منها.
في مثل هذا الواقع المر لا بد من وقفة موضوعية مع الذات من قبل الكتلة الوطنية، لننتقل من حالة الاستلاب لإرادات ترفضها، إلى حالة تتمكن فيها من مواجهة كل هذا الذي ترفضه. وإذا كانت الغالبية المستلبة الإرادة والقرار تسلم ان ما سيتحقق في النهاية هو ما تريده لنا القوى الطاغية دوليا وداخليا، لا ما نريده لأنفسنا، وان قرارنا ومواقفنا لا تقدم ولا تؤخر في تنفيذ ما سيرسمونه لنا، فالرهان هو على الموقف النقيض من ذلك، وعلى الإرادة الوطنية، واستند في ذلك إلى معطيات عدة، أهمها ان الردة عن التكوين التاريخي للأمم سواء بافتعال فتن داخلية، او بعدوان خارجي، او بهما معاً، هو فعل معاكس للتطور الإنساني قد يعيقه العدوان فترة من الزمن، لكن العدوان يهزم في النهاية وتنتصر إرادة الشعوب. من جهة أخرى، فإن انحسار مشروع النهوض والتحرر والتقدم في الوطن العربي كان له أسبابه الذاتية والموضوعية الداخلية والخارجية، وهو انحسار موقت، سينتهي بولادة جيل عربي جديد يعرف كيف يستفيد من التجارب المرة، وكيف يستأنف مسيرة النهوض من جديد، عند ذلك سيكون لكل حادث حديث. أما العامل الثالث، فيتعلق بالواقع الموضوعي، وبتجارب قرن من المعاناة. لقد جرب الخارج إلغاء الهوية العربية مع بداية القرن، فكان التتريك في المشرق، والفرنسة في المغرب، وفشل هنا وهناك. ثم حاول إقامة الكنتونات الطائفية والعنصرية، وفشل باستثناء «الكونتون الصهيوني» في فلسطين وهو إلى زوال. أما النظام الإقليمي الاستبدادي، فهو امام حائط مسدود الآن. هكذا يحاول بعض لاعبي الخارج العودة إلى دفاترهم القديمة، وقد ينجحون إلى حين. لكن النتيجة سيقررها جيل عربي يولد الآن، في حقل الألغام هذا، وعندما يكتشف خريطة الحقل، سيعرف كيف يخرج منه.
ـ 3 ـ
إن مسيرة التاريخ الإنساني الى الامام دائما. قد تعيقها عقبات مصطنعة داخليا وخارجيا. لكن الشعوب تعرف كيف تتجاوزها، والتاريخ العربي ليس استثناء، حيث تشير الروايات التاريخية الى حضارات متعاقبة استقرت في هذه البلاد، والى العديد من الامارات والقبائل والعشائر وأفخادها، التي كانت تنزاح تغريبا وتشريقا في الأرض العربية، استقراراً وترحالاً، ولم تعرف عبر تاريخها حدوداً تقسيمية ثابتة بينها، الى ان قرر الاستعمار الحديث تقسيمها بحدود دولية. وبما يخص «دولة سوريا»، قررت بريطانيا وفرنسا مع بداية القرن العشرين استكمال عمليات الاستعمار والتقسيم التي كانت قد أنجزت في المغرب العربي ووادي النيل، فيتم التحاصص في ما بينهما لاقتسام بلاد الشام والعراق استكمالا لاحتلال كامل الوطن العربي بين المحيط والخليج. ولم يكتفيا بالاحتلال والاستعمار والانتداب والوصاية والحماية، وانما تم تكليف سايكس الإنكليزي، وبيكو الفرنسي، برسم الحدود ليس بين دول وطنية، وانما بين قوتين استعماريتين. ثم انفرد كل من الإنكليز والفرنسيين بتقسيم نصيبه لتسهيل السيطرة عليه في ما كان يعرف ببلاد الشام.
ما يعنينا هنا «دولة سوريا» الحالية، التي قرر حدودها المندوبون الساميون الفرنسيون المتعاقبون بعد ذلك، محاولين في العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين تقسيمها الى دول دمشق، والسويداء، ولبنان، واللاذقية، والاسكندرونة، وحلب، ودير الزور، لكن الثورات المتلاحقة افشلت ذلك جزئيا، حيث تم اقتطاع الاسكندرونة وضمها للدولة التركية، كما تمت «توسعة» متصرفية جبل لبنان واعلانها دولة مستقلة. وهكذا قامت «دولة الجمهورية السورية» على ما تبقى من الحصة الاستعمارية للفرنسيين بمساحة 185 الف كيلو متر مربع، وباتت عضوا في هيئة الأمم المتحدة اعتبارا من 17/4/1946، ثم في 22/2/1958 تمت الوحدة بين الجمهورية السورية والجمهورية المصرية في دولة واحدة تحمل اسم «الجمهورية العربية المتحدة» لكن وفي 28/9/1961، ثم فصل الإقليم الشمالي «سوريا»، وعادت سوريا دولة تحمل اسم «الجمهورية العربية السورية»، وبعد عدوان 5/6/1967، ثم احتلال الجولان من قبل المستعمرين الصهاينة في فلسطين، وما زال في غالبيته محتلا حتى الآن.
ـ 4 ـ
أما التكوين البشري للشعب في «دولة الجمهورية العربية السورية» فالروايات التاريخية تتواتر عن قبائل وشعوب استقرت واختصت بهذه الأرض، حيث شيدت حاضرات مدنية مثل الآراميين والسومريين والكنعانيين والسريان والآشوريين. ومن تلك القبائل من حافظت على الترحال، مدراً، ووبراً، وبداوة. ومنها من انزاحت باتجاه الجبال والوديان والبوادي لتستقر وتلتحق بالحاضرات التي سبقتها الى الاستقرار، كسكان الجبال من القبائل العربية، حيث انزاحت أفواج كبيرة منهم للاندماج بالحاضرات المدنية. يضاف إلى ذلك هجرات من جماعات تعرضت للاضطهاد في أوطانها الاصلية، فلجأت الى سوريا طلبا للأمان مثل الشراكسة والارمن والبوسنيين. وجميع هؤلاء باتوا جزءا من النسيج الاجتماعي والوطني في البلاد، إضافة إلى جماعات رافقت قوات غازية من مغول وتتار وأتراك وفرس وأوروبيين، وحين غادر الغزاة، استقرت الجماعات تلك في سوريا وباتت جزءاً من نسيجها الوطني.
ـ 5 ـ
من تلك الأرومات على تنوعها، وتعدد مصادرها، ومن أرومات أخرى فرعية يصعب حصرها، تكوّن هذا الشعب في سوريا الذي هو الركن الأول، والاساسي في تكوين هذه الدولة «الجمهورية» التي رسم حدودها «سايكس وبيكو»، وما نفذه المندوبون الساميون الفرنسيون من اقتطاعات حتى الجلاء عام 1946. فكيف يمكن بعد كل هذا التاريخ من التفاعل والاندماج والتلاحم تقسيمه؟

 

حبيب عيسى

المصدر : السفير